بقلم – عبده حقي
تعتمد الجغرافيا السياسية غالبًا على النفوذ الاقتصادي والتحالفات العسكرية، وقد برزت القوة الأكثر هدوءً للدبلوماسية الثقافية كأداة تغيير للدول التي تسعى إلى عرض قيمها ومثلها خارج الحدود.
لطالما كانت الصناعات التقليدية على اختلاف منتوجاتها : المنسوجات والسيراميك والأرابيسك والأعمال المعدنية والجبسية – بمثابة أوعية للتراث وقيمه ، ولكن في المغرب، تجاوزت مراميها النفعية والبراغماتية لتصبح أدوات للقوة الرمزية الناعمة.
لقد نجح الحرفيون المغاربة، الذين غالبًا ما تم تجاهلهم لصالح فئات المثقفين والمفكرين وصناع السياسات، في الانتقال ببراعة بين الحفاظ على الأصالة واحتضان الحداثة. إن أعمالهم لا تكرس وترسخ التقاليد التي تعود إلى عشرات القرون فحسب، بل تعيد أيضًا تعريف الهوية المحلية للمغرب على المستوى العالمي ، وتقدم نموذجًا مقنعًا لقدرة الحرف اليدوية على سد فجوات المثاقفة وتعزيز التفاهم الدولي المتبادل.
يعتبر التراث الحرفي المغربي فسيفساء مزينة بخيوط من التأثيرات العربية والأمازيغية والأندلسية والصحراوية والإفريقية. وعلى مدى قرون، أنتج الحرفيون في فاس ومراكش ومكناس وآسفي وتيزنيت زخارف متنوعة من الزليج والسجاد المنسوج يدويًا وخشب الأرز والعرعار والفضة المنحوتة بدقة، ودمجوا الرموز الروحانية والمجتمعية والنضالية في تصميماتهم.
إن هذه القطع الأثرية النفيسة ليست مجرد سلع جامدة فحسب بل هي خزائن للذاكرة الجماعية. وكما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا “كليفورد جيرتز” في كتابه “المعرفة المحلية”، فإن الممارسات الثقافية هي “حكايات يرويها الناس لأنفسهم عن أنفسهم”، وتجسد الحرف المغربية بكل دقة هذا التفاعل بين السرديات والهوية.
إن بقاء هذه التقاليد في ظل الحكم الاستعماري والعولمة يؤكد على مقاومتها ومرونتها التي أصبحت جسرا دبلوماسيًا بين المغرب وكل من القارات الخمس.
وإذا كان المثقفون والسياسيون المغاربة يتجادلون في كثير من الأحيان عبر النقاشات الإيديولوجية حول مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والحداثة والتقليد ، والسلف والخلف ، فإن الحرفيين المغاربة ظلوا محايدين بالفطرة عن مثل هذه الثنائيات الفكرية والإيديولوجية… مثلا لقد أعاد الحرفيون المغاربة استخدام تقنية “تادلاكت” في التصميم الداخلي المعاصر لتزيين الفلل والفنادق الفاخرة من فاس إلى باريس ومدريد ودبي والرياض بظلالها وزركشتها الترابية المغربية الأصيلة . وعلى نحو مماثل، تزين ألوان الكوبالت الزرقاء والزخارف الهندسية للمنسوجات الأمازيغية اليوم منصات الأزياء العالمية، التي أعاد ترميزها مصممون مثل إيف سان لوران، الذي خلد متحفه في مراكش هذا التآزر بين الثقافات المغربية والأوروبية.
إن هذه البراعة والمهارة تعكس ما أطلق عليه عالم الاقتصاد “إي. إف. شوماخر” “التكنولوجيا المناسبة” في عمله الرائد “الصغير جميل”: الابتكار المتجذر في السياق المحلي بدلاً من فرضه من بعيد.
ومن خلال دمج الجماليات الحديثة دون محو التقنيات اليدوية القديمة حيث يتجنب الحرفيون المغاربة فخاخ التسليع التي غالبًا ما تبخس من الرموز الثقافية المغربية وحيث يتناقض منهجهم بشكل حاد مع التراث الذي انتقدته عالمة الاجتماع شارون زوكين، حيث يتم تطهير التقاليد النفيسة للاستهلاك الجماعي. بدلاً من ذلك، يعمل الحرفيون المغاربة كبناة لجسور التواصل والمثاقفة.
إن الإمكانات الدبلوماسية للصناعات التقليدية تكمن في قدرتها على إضفاء الطابع الإنساني على المفاهيم السياسية المجردة. فعندما يشتري جامع أوروبي صينية نحاسية من فاس أو مزهرية من آسفي، أو يتعاون مصمم ياباني مع مدبغة في مراكش، فإنهم ينخرطون جميعا في شكل من أشكال الحوار الذي يتجاوز الخطاب الرسمي للدولة.
إن هذه التفاعلات تجسد مفهوم جوزيف ناي للقوة الناعمة الذي يعني القدرة على تشكيل التفضيلات من خلال الجذب بدلاً من الإرغام.
وقد استفاد المغرب من هذا بشكل استراتيجي جيد . ففي عام 2019، أطلقت الحكومة “الخطة الوطنية للحرف اليدوية 2021-2025، وخصصت 450 مليون دولار لتحديث أوراش العمل، وتدريب الحرفيين، وتعزيز الصادرات.
كما عملت الأحداث الدولية على الرقي بالمجال الثقافي للمغرب. فقد عرض بينالي مراكش 2019 الحرفيين جنبًا إلى جنب مع الفنانين المعاصرين، حيث وضع الحرف التقليدية في إطار ديناميكي متطور وليس ثابت . وفي الوقت نفسه، تعمل التعاونيات الحرفية على تمكين الحرفيين القرويين من البيع مباشرة للأسواق العالمية عبر التجارة الإلكترونية، وإضفاء الطابع الديمقراطي على الولوج مع الحفاظ على الحرف اليدوية. وتتوافق مثل هذه الجهود مع مفهوم عالمة السياسة آن ماري سلوتر “الدبلوماسية الشبكية”، حيث تعمل الجهات الفاعلة غير الحكومية على صياغة روابط عبر الحدود.
وعلى الرغم من هذه الخطوات، لا تزال الكثير من التحديات قائمة في مسيرة الحرف التقليدية بالمغرب. إن التقليد والمحاكاة الرخيصين من المراكز الصناعية وخصوصا الصينية يهدد سبل عيش الحرفيين، في حين تتخلى الأجيال الشابة غالبًا عن الحرف العائلية والتقليدية من أجل العمل في المناطق الحضرية. ومع ذلك، فإن بقاء الحرف اليدوية المغربية يعتمد بشكل أساس على تطورها.
وتؤكد مبادرات مثل حماية التراث الثقافي غير المادي لمدينة فاس المدرجة في قائمة اليونسكو على التعليم، مما يضمن أن يتعلم المتدربون ليس فقط التقنيات ولكن السرديات التي تكمن وراءها. وهذا يتماشى مع أطروحة الفيلسوف والتر كراودير.
إن الحرفيين التقليديين في المغرب هم أكثر من مجرد حماة للتراث ؛ إنهم مهندسون بارعون لدبلوماسية ناعمة دقيقة حيث إن أعمالهم تتجاوز الحدود، وتدعو العالم إلى الانخراط مع المغرب ليس ككيان جيوسياسي ولكن كثقافة حية وعميقة.