CELEBRITIES- إكرام زايد-
في بيت الأسرة العتيق بحي سيدي مشيش الشعبي وسط مدينة سلا نما وكبر الفنان الراحل محمد الغاوي المزداد سنة 1956 ، وبين أحضان والد اشتغل في مجال البناء ووالدة تمثلت مهمتها في رعاية أبنائها العشر وتلبية متطلبات زوجها، متخذة من الملحون مؤنس وحدتها وعونها في القيام بمختلف مهامها الأسرية.
كانت الوالدة تردد قصائد الملحون في فناء البيت، وهو الولع الذي نهلته من والدها الذي كان بدوره مولعا بفن الملحون من خلال تنظيمه لـ “دارت” التي شكلت جلسات فنية كان ينظمها الأصدقاء بالتناوب في بيوتهم..عن هاته الذكريات يقول محمد الغاوي “أتذكر أن والدتي كانت تدندن بعض قصائد الملحون تحت أغصان شجرة وسط البيت في بيتنا العتيق بسلا، حيث كانت تجلس رفقة النساء تجلسن لتنظيف بعض التوابل”..
وعلى غرار أقرانه كان الطفل محمدالغاوي يلهو ويلعب في حي سيدي مشيشي وسط المدينة العتيقة لسلا، حيث يوجد السوق المركزي ومقهى عائلة برادة ومدرسة النهضة بذات المدينة ترعرع وتشبع بأولى بذرات الموسيقى والغناء..فمحل جزارة الجد بالسوق المركزي للمدينة كان ملاذ الأم التي فضلت إرسال ابنها البكر سمحمد في أيام العطلة الصيفية للظفر ببعض الراحة، والدافع شغبه الذي كان يسبب لها بعض العرقلة والتماطل في القيام بواجبتها المنزلية من أشغال البيت وعناية بباقي أبنائها التسع..
في محل جزارة الجد أيضا تسللت أول الأنغام إلى مسامع الطفل محمد، ومن هذا المحل أيضا كان يرصد بعين المراقب الذكي ما يجري داخال فضاء مقهى برادة المقابل للمحل، حيث اعتاد صاحبها يوميا على تشنيف مسامع زينائه والمارين بحصة موسيقية يومية عقب كل صلاة العصر وفق برنامج مسطر بدقة وفنية متناهية روعيت فيها أيام الأسبوع من قبل رب المقهى الذي مازال موجودا إلى حدود الآن..
وفي مقهى برادة كانت البرمجة الموسيقية موزعة وفق الأيام، حيث كان يخصص مثلا يوم الخميس من كل أسبوع لتقديم حصة الملحون والموسيقى الأندلسية، فيما يخصص يوم ثاني لكوكب الشرق، ويوم آخر متعلق مثلا بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ويوم موالي للعندليب الأسمر وآخر للراحل سيد مكاوي وآخر للراحلة اسمهان، دون إغفال تقديم حصص موسيقية لرودا الفن المغربي على نحو الحسين السلاوي واسماعيل أحمد والمعطي بلقاسم وغيرهم..
ومن مقهى برادة أيضا كان الطفل محمد الذي لم يتجاوز سنه إذاك الثماني سنوات، ينهل من روائع الموسيقى المغربية والعربية ويهم بتخزين كل ما تلتقطه أذناه في ذاكرته الفتية تمهيدا لمراحل مقبلة، سيقول فيها كلمته وسيصبح إسما فنيا من أهم الأسماء الفنية التي تنعم بها الساحة الفنية المغربية..

يحفظ الفنان محمد الغاوي الكثير من الذكريات عن مقهى برادة كما يدين لها بالفضل الكبير في احترافه الفن لاحقا بعدما فتحت أعينه على عوالم الكلمة واللحن والأداء، عنها يقول “كان لهذا المقهى دور كبير في توجهاتي الفنية في ما بعد، و أتذكر أنه أمام السوق المركزي كانت توجد ثلاث مقاه: أبرزها امتلكتها عائلة برادة حيث كانت تبث بعد صلاة من العصر أغنيات كلاسيكية للفنانين مغاربة رواد على الراحلين الحسين السلاوي واسماعيل أحمد وعرب على غرار حمد عبد الوهاب وفريد الأطرش واسمهان وعبد الحليم حافظ، وفق برنامج محدد يشبه البرمجة الإذاعية..كان عمري حينها ثماني سنوات، وأتذكر أني كنت أجلس في الأدراج المقابلة للمقهى بالسوق المركزي، لأنه حينها لم يكن بإمكاني ارتيادها لصغر سني إذاك.. لذا كنت أكتفي بالاستماع إلى كل الأغنيات المنبعثة من داخل المقهى، مع تركيز مطلق في الكلمات جعلني أحفظ عن ظهر قلب مختل أهم أعمال الريبرتوار العربي الكلاسيكي في غضون ثلاث أو أربع سنوات”..
شغف الطفل محمد الغاوي بالموسيقى والغناء، تعدى حدود الفن المغربي والعربي بل وصل إلى الغناء الهندي، حيث كان مولعا بمتابعة الأفلام الهندية التي كان يصاحبه والده لمشاهدتها بالقاعات السينمائية نظير مبلغ لم يتعد في أقصى الحالات درهما واحدا…عن ذلك يقول الغاوي ” كان والدي رحمه الله يصحبني لمتابعة الأفلام الهندية، وكنت أحفظ أغنياتها عن ظهر قلب رغم أني غير مستوعب كلماتها أبدا”..
ورغم الذكريات الجميلة التي مازال محمد الغاوي يحفظها في وجدانه عن مقهى برادة أيام طفولته، ورغم أنها مازالت موجودة إلى حدود اليوم فإن أحوالها تبدلت ووضعها تغير مقارنة بماض يحمل له الغاوي الكثير من الحنين والعرفان.. حيث يقول الغاوي بنبرة يشوبها بعض الأسف والأسى عن هاته المقهى الخاصة ” لازالت هاته المقهى موجودة لكن بعيدا عن تلك الطقوس التي شكلت ميزتها وخصوصيتها في الماضي”..
